فصل: قَاعِدَةٌ: فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ:

وَتُسْتَفَادُ الْإِبَاحَةُ مِنْ لَفْظِ الْإِحْلَالِ، وَرَفْعِ الْجُنَاحِ، وَالْإِذْنِ وَالْعَفْوِ وَ: (إِنْ شِئْتَ فَافْعَلْ) وَ: (إِنْ شِئْتَ فَلَا تَفْعَلْ) وَمِنَ الِامْتِنَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بها الْأَفْعَالِ؛ نَحْوُ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا}، {وبالنجم هم يهتدون} وَمِنَ السُّكُوتِ عَنِ التَّحْرِيمِ وَمِنَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْفِعْلِ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ وَهُوَ نَوْعَانِ: إِقْرَارُ الرَّبِّ تَعَالَى وَإِقْرَارُ رَسُولِهِ إِذَا عُلِمَ الْفِعْلُ، فَمِنْ إِقْرَارِ الرَّبِّ قَوْلُ جَابِرٍ: «كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ» وَمِنْ إِقْرَارِ رَسُولِهِ قَوْلُ حَسَّانَ: «كُنْتُ أَنْشُدُ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ».

.فَائِدَةٌ:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} جَمَعَتْ أُصُولَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا، فَجَمَعَتِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْإِبَاحَةَ وَالتَّخْيِيرَ.

.فَائِدَةٌ:

تَقْدِيمُ الْعِتَابِ عَلَى الْفِعْلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فقد عاتب الله سبحانه فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ: فِي الْأَنْفَالِ، وَبَرَاءَةَ، وَالْأَحْزَابِ، وَالتَّحْرِيمِ، وَعَبَسَ خِلَافًا لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ حَيْثُ جَعَلَ الْعَتْبَ مِنْ أَدِلَّةِ النَّهْيِ.

.فَائِدَةٌ:

لَا يَصِحُّ الِامْتِنَانُ بِمَمْنُوعٍ عَنْهُ؛ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُصْرَفُ الِامْتِنَانُ إِلَى خَلْقِهِ لِلصَّبْرِ عَلَيْهِمْ.

.فَائِدَةٌ:

التَّعَجُّبُ كَمَا يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لِلْفِعْلِ نَحْوِ: «عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ» وَ: «تَعَجَّبَ رَبُّكَ مِنْ رَجُلٍ ثَارَ مِنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ إِلَى الصَّلَاةِ» وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ يَدُلُّ عَلَى بُغْضِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ}، وقوله: {بل عجبت ويسخرون}، وقوله: {كيف تكفرون بالله} {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وفيكم رسوله}.
وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْحُكْمِ وَعَدَمِ حُسْنِهِ، كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعند رسوله}.
وَيَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْمَنْعِ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ فِعْلُهُ كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}.

.قَاعِدَةٌ: فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ:

إِنْ وُجِدَ دَلِيلٌ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ صُيِّرَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَالْمُطْلَقُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ.
وَالضَّابِطُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَكَمَ فِي شَيْءٍ بِصِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ ثُمَّ وَرَدَ حُكْمٌ آخَرُ مُطْلَقًا نُظِرَ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إِلَيْهِ إِلَّا ذَلِكَ الْحُكْمَ الْمُقَيَّدَ وَجَبَ تَقْيِيدُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ رَدُّهُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
فَالْأَوَّلُ مِثْلُ اشْتِرَاطِ اللَّهِ الْعَدَالَةَ فِي الشُّهُودِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْفِرَاقِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِطْلَاقِهِ الشَّهَادَةَ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، وَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ فِي الْجَمِيعِ.
وَمِنْهُ تَقْيِيدُ مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصين بها أو دين} وَإِطْلَاقُهُ الْمِيرَاثَ فِيمَا أَطْلَقَ فِيهِ، وَكَانَ مَا أَطْلَقَ مِنَ الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ.
وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَطَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مِنَ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَأَطْلَقَهَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ، وَالْمُطْلَقُ كَالْمُقَيَّدِ فِي وَصْفِ الرَّقَبَةِ.
وَكَذَلِكَ تَقْيِيدُ الْأَيْدِي إِلَى الْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ، وَإِطْلَاقُهُ فِي التَّيَمُّمِ.
وَكَذَلِكَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عمله} فَأَطْلَقَ الْإِحْبَاطَ عَلَيْهِ وَعَلَّقَهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمُوَافَاةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {ومن يرتدد مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حبطت أعمالهم} وقيد الرِّدَّةَ بِالْمَوْتِ عَلَيْهَا وَالْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، فَوَجَبَ رَدُّ الْآيَةِ الْمُطْلَقَةِ إِلَيْهَا وَأَلَّا يُقْضَى بِإِحْبَاطِ الْأَعْمَالِ إِلَّا بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ عَلَيْهَا؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَرَّعَ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ.
وَمِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ تَحْرِيمُ الدَّمِ وَتَقْيِيدُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْمَسْفُوحِ.
وقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} وقال في موضع آخر: {منه}.
وَقَوْلُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نؤته منها} فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: نَحْنُ نَرَى مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا طَلَبًا حَثِيثًا وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ! قُلْنَا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} فَعَلَّقَ مَا يُرِيدُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: {أجيب دعوة الداع إذا دعان} وقوله: {ادعوني أستجب لكم}، فَإِنَّهُ مُعَلَّقٌ.

.تَنْبِيهٌ:

اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ: هَلْ هُوَ مَنْ وضع اللغة أو بالقياس على مذهبين، والأولون يقولون: الْعَرَبَ مِنْ مَذْهَبِهَا اسْتِحْبَابُ الْإِطْلَاقِ اكْتِفَاءً بِالْمُقَيَّدِ وَطَلَبًا لِلْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {عَنِ اليمين وعن الشمال قعيد}.
وَالْمُرَادُ (عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ) وَلَكِنْ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ فَلَا بُعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ كَالْمُقَيَّدِ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالِاتِّحَادِ الصِّفَةُ الْقَدِيمَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالذَّاتِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ فَمَحْسُوسٌ تَعَدُّدُهَا، وَفِيهَا الشَّيْءُ وَنَقِيضُهُ، كَالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّقَائِضِ الَّتِي لَا يُوصَفُ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ بِأَنَّهُ اشتمل عَلَيْهَا.
وَالثَّانِي: كَإِطْلَاقِ صَوْمِ الْأَيَّامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَقُيِّدَتْ بِالتَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، وبالتفريق في صوم التمتع، فلما تجاذب الْأَصْلَ تَرَكْنَاهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ.
هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَأَمَّا إِذَا حُكِمَ فِي شَيْءٍ بِأُمُورٍ لَمْ يُحْكَمْ فِي شَيْءٍ آخَرَ يَنْقُضُ تِلْكَ الْأُمُورَ وَسُكِتَ فِيهِ عَنْ بَعْضِهَا فَلَا يَقْتَضِي الْإِلْحَاقَ، كَالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَذَكَرَ فِي التَّيَمُّمِ عُضْوَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ بِمَسْحِ الرَّأْسِ وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْحِهِمَا بِالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ.
وَمِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ وَالطَّعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِطْعَامَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي إِبْدَالِ الطَّعَامِ عَنِ الصِّيَامِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ في قوله تعالى: {وأمهات نسائكم وربائبكم} أَنَّ اللَّامَ مُبْهَمَةٌ، وَعَنَوْا بِذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الرَّبَائِبِ خَاصَّةً.

.قَاعِدَةٌ: فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ:

لَا يُسْتَدَلُّ بِالصِّفَةِ الْعَامَّةِ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ تَقْيِيدُ عَدَمِ التَّعْمِيمِ؛ وَيُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: اللَّفْظُ بَيِّنٌ فِي مَقْصُودِهِ وَيُحْتَمَلُ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ.
فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفضة} لَا يَصْلُحُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ في قليل الذهب والفضة وكثيره، وفي المتنوع مِنْهُمَا مِنَ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ دُونَ النِّصَابِ مِنْهُمَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي جُمْلَةِ الْمُتَوَعَّدِينَ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُمَا! وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْآيَةِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي تَرْكِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنَ الزَّكَاةِ مِنْهُمَا، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ مِقْدَارِ مَا يَجِبُ مِنَ الْحَقِّ فِيهِمَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون} الْآيَةَ، الْقَصْدُ مِنْهَا مَدْحُ قَوْمٍ صَانُوا فُرُوجَهُمْ عَمَّا لَا يَحِلُّ، وَلَمْ يُوَاقِعُوا بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ بِمِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ الْيَمِينِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ مَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَحِلُّ.
ثُمَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَفْصِيلِ مَا يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ صُيِّرَ إِلَى ما قصد وتفصيله بقوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} الآية.
كَذَا قَالَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} إلى قوله: {من الخيط الأسود}، فلو تعلق متعلق بقوله: {وكلوا واشربوا} فِي إِبَاحَةِ أَكْلِ أَوْ شُرْبِ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ لَكَانَ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ قَدْ غَفَلَ عَنْ أَنَّهَا لَمْ تَرِدْ مُبَيِّنَةً لِذَلِكَ، بَلْ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ جَوَازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ إِلَى الْفَجْرِ دَفْعًا لِمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ حَظْرِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نَامَ، فَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ إِبَاحَةَ مَا كَانَ مَحْظُورًا ثُمَّ أَطْلَقَ لَفْظَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ذوالمباشرة لا مَعْنَى إِبَانَةِ الْحُكْمِ فِيمَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالدَّمِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَلَا الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا لَا يُبْتَغَى مِنْهُ الْوَلَدُ، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي الْعُمُومِ إِلَى الْمَعَانِي لَا لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ قَالَ الْقَفَّالُ وَمَنْ ضَبَطَ هَذَا الْبَابَ أفاد علما كثيرا.

.فصل: الأحكام المستنبطة من تنبيه الخطاب:

ومما تستثمر مِنْهُ الْأَحْكَامُ تَنْبِيهُ الْخِطَابِ وَهُوَ:
إِمَّا فِي الطَّلَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فَنَهْيُهُ عَنِ الْقَلِيلِ مُنَبِّهٌ عَلَى الْكَثِيرِ، وَقَوْلُهُ: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِحْرَاقِ وَالْإِتْلَافِ.
وإما في الخبر:
فإما أَنْ يَكُونَ بِالتَّنْبِيهِ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الرِّطْلَ وَالْقِنْطَارَ لَا يَضِيعُ لَكَ عِنْدَهُ. وَكَقَوْلِهِ: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} {ولا يظلمون نقيرا} {ولا يظلمون فتيلا} {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نَقِيرًا أَوْ قِطْمِيرًا مَعَ قِلَّتِهِمَا فَهُوَ عَنْ مِلْكِ مَا فَوْقَهُمَا أَوْلَى وَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْزُبْ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مَعَ خَفَائِهِ وَدِقَّتِهِ فَهُوَ بِأَلَّا يَذْهَبَ عَنْهُ الشَّيْءُ الْجَلِيلُ الظَّاهِرُ أَوْلَى.
وَإِمَّا بِالْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يؤده إليك} فَهَذَا مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَيْكَ الدِّينَارَ وَمَا تَحْتَهُ ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} فَهَذَا مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّنْبِيهُ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ فَدَلَّ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّكَ لَا تَأْمَنُهُ بِقِنْطَارٍ بِعَكْسِ الْأَوَّلِ.
وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي فُرُشِ أهل الجنة: {بطائنها من إستبرق} وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْلَى مَا عِنْدَنَا هُوَ الْإِسْتَبْرَقُ الَّذِي هُوَ الْخَشِنُ مِنَ الدِّيبَاجِ فَإِذَا كَانَ بَطَائِنُ فُرُشِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوهَهَا فِي الْعُلُوِّ إِلَى غَايَةٍ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي شَرَابِ أَهْلِ الجنة: {ختامه مسك} وَإِنَّمَا يُرَى مِنَ الْكَأْسِ الْخِتَامُ وَأَعْلَى مَا عِنْدَنَا رَائِحَةُ الْمِسْكِ وَهُوَ أَدْنَى شَرَابُ أَهْلِ الجنة فليتبين اللبيب إذا كان الثفل الذي فيك الْمِسْكُ أَيْشِ يَكُونُ حَشْوُ الْكَأْسِ فَيَظْهَرُ فَضْلُ حَشْوِ الْكَأْسِ بِفَضْلِ الْخِتَامِ وَهَذَا مِنَ التَّنْبِيهِ الخفي.
وقوله: {الذي باركنا حوله} فَنَبَّهَ عَلَى حُصُولِ الْبَرَكَةِ فِيهِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْبَدِيعَ يُنْظَرُ إِلَيْهِ مِنْ سِتْرٍ رَقِيقٍ وَطَرِيقُ تَحْصِيلِهِ فَهْمُ الْمَعْنَى وَتَقْيِيدُهُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ كَمَا فِي آيَةِ التَّأْفِيفِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا سِيقَتْ لِاحْتِرَامِ الْوَالِدَيْنِ وَتَوْقِيرِهِمَا فَفَهِمْنَا مِنْهُ تَحْرِيمَ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَلَوْ لَمْ يُفْهَمِ الْمَعْنَى لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ الْكَبِيرَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولَ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ اقْتُلْ قِرْنِي وَلَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ وَيَكُونُ قَصْدُهُ الْأَمْنَ عَنْ مُزَاحَمَتِهِ فِي الْمُلْكِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا جَاءَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى.
فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا ابْتَنَى الْفَهْمَ عَلَى تَخَيُّلِ الْمَعْنَى كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَمَا صَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ.
قِيلَ مَا يَتَأَخَّرُ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ وَمَا يَتَقَدَّمُ فَهْمُهُ عَلَى اللَّفْظِ وَيَقْتَرِنُ بِهِ لَا يَكُونُ قِيَاسًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اسْتِنْبَاطٍ وَتَأَمُّلٍ فَإِنْ أَطْلَقَ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ اسْمَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَأَرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا مُضَايَقَةَ فِي التسمية.